الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
والنصوص والآثار في تفضيل كلام الله ـ بل وتفضيل بعض صفاته ـ على بعض متعددة. وقول القائل: صفات الله كلها فاضلة/في غاية التمام والكمال ليس فيها نقص كلام صحيح، لكن توهمه أنه إذا كان بعضها أفضل من بعض؛ كان المفضول معيبًا منقوصًا خطأ منه، فإن النصوص تدل على أن بعض أسمائه أفضل من بعض؛ ولهذا يقال: دعا الله باسمه الأعظم، وتدل على أن بعض صفاته أفضل من بعض وبعض أفعاله أفضل من بعض، ففي الآثار ذكر اسمه العظيم واسمه الأعظم، واسمه الكبير والأكبر، كما في السنن ورواه أحمد وابن حبان في صحيحه، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، فإذا رجل يصلي يدعو: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا سئل به أعطي، وإذا دُعي به أجاب). وعن أنس قال: كنت جالسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلقة، ورجل قائم يصلي، فلما ركع وسجد، تشهد ودعا، فقال في دعائه: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض، ياذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لقد دعا باسم الله الأعظم، الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطي). /وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله كتب في كتاب، فهو موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتى تغلب غضبي)، وفي رواية: (سبقت رحمتي غضبي)، فوصف رحمته بأنها تغلب وتسبق غضبه، وهذا يدل على فضل رحمته على غضبه من جهة سبقها وغلبتها. وقد ثبت في صحيح مسلم، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان يقول في سجوده: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك). وروى الترمذي أنه كان يقول ذلك في وتره، لكن هذا فيه نظر. وقد ثبت في الصحيح والسنن والمساند من غير وجه الاستعاذة بكلماته التامات، كقوله: (أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون). وفي صحيح مسلم عن خولة أنه قال صلى الله عليه وسلم: (من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامة لم يضره شيء حتى يرتحل منه). وفي الصحيح أنه قال لعثمان بن أبي العاص: (قل: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر). ومعلوم أن المستعاذ به أفضل من المستعاذ منه، فقد استعاذ برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته. وأما استعاذته به منه، فلابد أن يكون باعتبار جهتين: يستعيذ به باعتبار تلك الجهة، ومنه باعتبار تلك الجهة ليتغاير المستعاذ به والمستعاذ /منه؛ إذ أن المستعاذ منه مخوف مرهوب منه، والمستعاذ به مدعو مستجار به ملتجأ إليه، والجهة الواحدة لا تكون مطلوبة مهروبًا منها، لكن باعتبار جهتين تصح، كما في الحديث الذي في الصحيحين عن البراء بن عازب؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم عَلَّم رجلًا أن يقول عند النوم: (اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك، وفوضت أمري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا منجا ولا ملجأ منـك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت)، فبين أنه لا ينجي منه إلا هو، ولا يلتجأ منه إلا إليه. وأعمل الفعل الثاني، لما تنازع الفعلان في العمل. ومعلوم أن جهة كونه منجيًا غير جهة كونه منجيًا منه، وكذلك جهة كونه ملتجأ إليه غير كونه ملتجأ منه، سواء قيل: إن ذلك يتعلق بمفعولاته أو أفعاله القائمة به أو صفاته أو بذاته باعتبارين. وفي صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن ـ وكلتا يديه يمين ـ الذين يعدلون في حكمهم، وأهلهم، وما ولوا). وقد جاء ذكر اليدين في عدة أحاديث، ويذكر فيها أن كلتاهما يمين مع تفضيل اليمين. قال غير واحد من العلماء: لما كانت صفات المخلوقين متضمنة للنقص، فكانت يسار أحدهم ناقصة في القوة ناقصة في الفعل، /بحيث تفعل بمياسرها كل ما يذم ـ كما يباشر بيده اليسرى النجاسات والأقذار ـ بين النبي صلى الله عليه وسلم أن كلتا يمين الرب مباركة ليس فيها نقص ولا عيب بوجه من الوجوه كما في صفات المخلوقين، مع أن اليمين أفضلهما كما في حديث آدم قال: (اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة). فإنه لا نقص في صفاته ولا ذم في أفعاله، بل أفعاله كلها إما فضل وإما عدل. وفي الصحيحين عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يمين الله ملأي لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه، والقسط بيده الأخرى يرفع ويخفض). فبين صلى الله عليه وسلم أن الفضل بيده اليمنى والعدل بيده الأخرى، ومعلوم أنه مع أن كلتا يديه يمين فالفضل أعلى من العدل، وهو سبحانه كل رحمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، ورحمته أفضل من نقمته؛ ولهذا كان المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، ولم يكونوا عن يده الأخرى، وجعلهم عن يمين الرحمن تفضيل لهم، كما فضل في القرآن أهل اليمين وأهل الميمنة على أصحاب الشمال وأصحاب المشأمة وإن كانوا إنما عذبهم بعدله، وكذلك الأحاديث والآثار جاءت بأن أهل قبضة اليمين هم أهل السعادة، وأهل القبضة الأخرى هم أهل الشقاوة. /ومما يبين هذا: أن الشر لم يرد في أسمائه، وإنما ورد في مفعولاته ولم يضف إليه إلا على سبيل العموم، وأضافه إلى السبب المخلوق أو بحذف فاعله، وذلك كقوله تعالى: وقـد ثبت في صحيـح مسلم عـن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنـه كان يقول في دعاء الاستفتاح: (والخير بيديك والشر ليس إليك). وسواء أريد به: أنه لا يضاف إليك ولا يتقرب به إليك، أو قيل: إن الشر إما عدم وإما من لوازم العدم، وكلاهما ليس إلى الله، فهذا يبين أنه سبحانه إنما يضاف إليه الخير، وأسماؤه تدل على صفاته، وذلك كله خير حسن جميل ليس فيه شر، وإنما وقع الشر في المخلوقات، قال تعالى: وذلك أن الله ـ سبحانه ـ حكيم رحيم، وقد أخبر أنه لم يخلق المخلوقات إلا بحكمته، كما قال في قوله تعالى: وبعض الناس يظن أن قوله: {هُوَ الْخَلاَّقُ} إشارة إلى أنه خالق أفعال العباد، فلا ينبغي التشديد في الإنكار عليهم، بل يصفح عنهم الصفح الجميل لأجل القدر! وهذا من أعظم الجهل، فإنه سبحانه قد عاقب المخالفين له ولرسله، وغضب عليهم، وأمر بمعاقبتهم، وأعد لهم من العذاب ما ينافي قول هؤلاء المعطلين لأمره ونهيه ووعده ووعيده. وقوله: ولم يعذر الله أحدًا قط بالقدر، ولو عذر به، لكان أنبياؤه وأولياؤه أحق بذلك، وآدم إنما حج موسى؛ لأنه لامه على المصيبة التي أصابت الذرية فقال له: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ وما أصاب العبد من المصائب فعليه أن يسلم فيها لله، ويعلم أنها مقدرة عليه، كما قال/ تعالى: ولابـد لكـل عبـد مـن أن يقع منه ما يحتاج معه إلى التوبة والاستغفار، ويبتلي بما يحتاج معه إلى الصبر، فلهذا يؤمر بالصبر والاستغفار كما قيل لأفضل الخلق: ومن الإيمان بالقدر: أن يعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فالمؤمن يصبر على المصائب، ويستغفر من الذنوب والمعائب، والجاهل الظالم يحتج بالقدر على ذنوبه وسيئاته، ولا يعذر بالقدر من أساء إليه، ولا يذكر القدر عند ما ييسره الله له من الخير، فعكس القضية، بل كان الواجب عليه إذا عمل حسنة أن يعلم أنها نعمة من الله هو يسرها وتفضل بها، فلا يعجب بها ولا يضيفها إلى نفسه كأنه الخالق لها، وإذا عمل سيئة استغفر وتاب منها، وإذا أصابته مصيبة سماوية أو بفعل العباد يعلم أنها كانت مقدرة مقضية عليه، /وهذا مبسوط في موضعه. والمراد هنا: أنه ـ سبحانه ـ بين أنه إنما خلق المخلوقات لحكمته، وهذا معنى قوله: {بالحق}، وقد ذم من ظن أنه خلق ذلك باطلًا وعبثًا، فقال: وهذا موضوع عظيم قد بسط في غير هذا الموضع، فإن الناس - في باب خلق الرب وأمره ولم فعل ذلك؟ - على طرفين ووسط: فالقدرية من المعتزلة وغيرهم قصدوا تعظيم الرب وتنزيهه عما ظنوه قبيحًا من الأفعال وظلما؛ فأنكروا عموم قدرته ومشيئته، ولم يجعلوه خالقًا /لكل شيء، ولا أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، بل قالوا: يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء! ثم إنهم وضعوا لربهم شريعة فيما يجب عليه ويحرم ـ بالقياس على أنفسهم ـ وتكلموا في التعديل والتجويز بهذا القياس الفاسد الذي شبهوا فيه الخالق بالمخلوق، فضلوا وأضلوا. وقابلهم الجهمية الغلاة في الجبر، فأنكروا حكمة الله ورحمته وقالوا: لم يخلق لحكمة، ولم يأمر بحكمة، وليس في القرآن [لام كي] لا في خلقه ولا في أمره. وزعموا أن قوله: وأنكر هؤلاء محبة الله ورضاه لبعض الموجودات دون بعض. وقالوا: المحبة والرضا هو من معنى الإرادة، والله مريد لكل ما خلقه، فهو راض بذلك محب له. وزعموا أن ما في القرآن من نفي حبه ورضاه بالكفر والمعاصي كقوله: قال أبو المعإلى الجويني: ومما اختلف أهل الحق في إطلاقه وعدم إطلاقه المحبة والرضا، فصار المتقدمون إلى أنه ـ سبحانه ـ لا يحب الكفر ولا يرضاه، وكذلك كل معصية. وقال شيخنا أبو الحسن: المحبة هي الإرادة نفسها، وكذلك الرضا والاصطفاء، وهو ـ سبحانه ـ يريـد الكفر/ويرضاه كفرًا قبيحًا معاقبًا عليه. وهـو كما قال أبو المعالي، فـإن المتقـدمـين مـن جميـع أهـل السنة على ما دل عليه الكتاب والسنة من أنه ـ سبحانه ـ لا يرضى ما نهى عنه ولا يحبه، وعلى ذلك قدماء أصحاب الأئمة الأربعة ـ أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، كأبي بكر عبد العزيز وغيره من قدمائهم ـ ولكن من المتأخرين من سوى بين الجميع كما قاله أبو الحسن، وهو في الأصل قول لجهم، فهو الذي قال في القدر بالجبر، وبما يخالف أهل السنة، وأنكر رحمه الله ـ تعالى ـ وكان يخرج إلى الجُذمي فيقول: أرحم الراحمين يفعل هذا؟ ! فنفي أن يكون الله أرحم الراحمين! وقد قال الصادق المصدوق: (لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها). وهذه مسائل عظيمة ليس هذا موضع بسطها. وإنما المقصود هنا التنبيه على الجمل، فإن كثيرًا من الناس يقرأ كتبًا مصنفة في أصول الدين وأصول الفقه، بل في تفسير القرآن والحديث، ولا يجد فيها القول الموافق للكتاب والسنة الذي عليه سلف الأمة وأئمتها، وهو الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول، بل يجد أقوالا كل منها فيه نوع من الفساد والتناقض، فيحار: ما الذي يؤمن به في هذا الباب؟ وما الذي جاء به الرسول؟ وما هو الحق والصدق؟ إذ لم يجد في تلك الأقوال ما يحصل به ذلك. وإنما الهدي فيما جاء به الرسول الذي قال الله فيه
|